كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى: {وبست الجبال بسًا} أي: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه؛ قال ابن عباس ومجاهد: كما يبس الدقيق أي: يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادًا قال الراجز:
لا تخبزا خبزًا وبسابسا ** ولا تطيلا بمناخ حبسًا

أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت: بس بس قاله أبو زيد؛ وقال الحسن: بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفًا؛ وقال عطية: بسطت بالرمل والتراب {فكانت} أي: بسبب ذلك {هباء} أي: غبارًا هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى: {منبثًا} أي: منتشر متفرّقًا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة؛ وعن ابن عباس: هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئًا {وكنتم} أي: قسمتم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم في الدنيا {أزواجًا} أي: أصنافا {ثلاثة} كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة؛ قال البيضاوي: وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ثم بين من هم بقوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} وهم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم مبتدأ، وقوله تعالى: {ما} استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان، وقوله تعالى: {أصحاب الميمنة} خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير، ومثله {الحاقة ما الحاقة} [الحاقة] {القارعة ما القارعة} [القارعة] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.
ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى: {وأصحاب المشأمة} أي: الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى: {ما أصحاب المشأمة} تحقير لشأنه بدخولهم النار، وقال السدي: {أصحاب الميمنة} هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {وأصحاب المشأمة} هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال: الشؤمي، قال البغوي: ومنه سمى الشأم واليمن، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {أصحاب الميمنة} هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه، فقال الله تعالى لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي؛ وقال زيد بن أسلم: هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن؛ وقال ابن جريج: {أصحاب الميمنة} هم أصحاب الحسنات {وأصحاب المشأمة} هم {أصحاب السيئات}.
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: فقال: مرحبًا بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: آدم عليه السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار». وذكر الحديث وقال المبرّد: أصحاب الميمنة: أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة: أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي: اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين.
تنبيه:
الفاء في قوله تعالى: {فأصحاب} تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال: أزواجًا ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، ثم بين حال كل قسم فقال: فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولًا واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، فإن قيل: ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟
أجيب: بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منه ألفاظًا في مواضع، فقالوا: هذا ميمون تيمنًا به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، واستعملوا منه ألفاظًا تشاؤمًا به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة، وذكر الشمال في مقابلة اليمين، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.
ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيبًا في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيبًا في سوء حالهم فقال تعالى: {والسابقون} أي: إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى: {السابقون} تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم». وقال محمد بن كعب القرظي: هم الأنبياء عليهم السلام، وقال الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمّة؛ وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} [التوبة].
وقال مجاهد والضحاك: هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحًا إلى الصلاة؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس؛ وقال سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البرّ، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران:].
{ثم أثنى عليهم فقال تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون:].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم أربعة: منهم سابق أمّة موسى عليه السلام وهو حز قيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمّة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان: الناس ثلاثة: رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة، وقيل: هم أوّل الناس رواحًا إلى المسجد وأولهم خروجًا في سبيل الله.
وخبر المبتدأ {أولئك} أي: العالو الرتبة جدًا {المقرّبون} أي: الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق، فأرادهم لقربه ولولا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين؛ قال الرازي في اللوامع: المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها الله تعالى دينًا ودنيا من حق الله تعالى، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والإنقياد، وهم صنفان: صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. ه.
ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى: {في جنات النعيم} أي: الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى: {ثلة} أي: جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد:
وجاءت إليهم ثلة خندفية ** تجيش كتيار من السيل مزبد

قال ابن عادل: ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة؛ قلت: أو كثرت ثم قال: والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. ه. لكن قال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد {من الأولين} أي: من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم من النبيين عليهم السلام ومن آمن بهم {وقليل من الآخرين} وهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفًا وعشرين ألفًا، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي: ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «أمتي يكثرون سائر الأمم». لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.
قيل: لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني». رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة؛ قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ، وقال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى: {وقليل من الآخرين} وقال في أصحاب اليمين: وهم سوى السابقين {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنى لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين}». وروى الطبراني: أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة، «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا، كما فسر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال أبو بكر: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} [فاطر:].
وقيل: المراد بالأولين {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبالآخرين {ذرياتهم} الملحقون بهم في قوله تعالى: {وأتبعتهم ذريتهم بإيمان} [الطور:].
ألحقنا بهم ذرياتهم، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر {على سرر} جمع سرير وهو ما يجعل الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة {موضونة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منسوجة بالذهب، وقال عكرمة: مشبكة بالدرّ والياقوت؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: موضونة، أي: مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر: {على سرر مصفوفة} وقيل: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت، والموضونة المنسوجة، وأصله: من وضنت الشيء أي: ركبت بعضه على بعض، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ** تسير مع الحيّ عيرًا فعيرًا

ومنه أيضًا وضين الناقة وهو حزامها لتراكب طاقاته، قال عمر رضي الله عنه: وهو مار بواد محسر:
إليك تعد وقلقًا وضينها ** معترضًا في بطنها جنينها

مخالفًا دين النصارى دينها رواه البيهقي. ومناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقًا، وضينها وهو حبل كالجزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك؛ والمراد: صاحب الناقة فيسنّ للمار بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضى الله تعالى عنه.
ولما ذكر تعالى السرر وبين عظمتها ذكر غايتها فقال سبحانه: {متكئين عليها} أي: السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للإتكاء عليه {متقابلين} فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقال مجاهد وغيره: هذا في المؤمن وزوجته وأهله أي: يتكؤون متقابلين، قال الكلبي طول كل سرير ثلث مئة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت وقيل: إنهم صاروا أرواحًا نورانية صافية ليس لهم أدبار ولا ظهور.
تنبيه: